الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)
.تفسير الآيات (22- 24): {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)}لما قال تعالى: {من خشية الله} [الحشر: 21] جاء بالأوصاف التي توجب لمخلوقاته هذه الخشية، و{الغيب} ما غاب عن المخلوقين، و{الشهادة} ما شاهدوه. وقال حرب المكي {الغيب}: الآخرة {والشهادة}: الدنيا. وقرأ جمهور الناس: {القُدوس} بضم القاف، وهو فعول من تقدس إذا تطهر، وحظيرة القدس الجنة، لأنها طاهرة، ومنه روح القدس، ومنه الأرض المقدسة بيت المقدس، وروي عن أبي ذر أنه قرأ: {القَدوس} بفتح القاف وهي لغة، و{السلام} معناه: الذي سلم من جوره، وهذا اسم على حذف مضاف أي ذو {السلام}، لأن الإيمان به وتوحيده وأفعاله هي لمن آمن سلام كلها، و{المؤمن} اسم فاعل من آمن بمعنى أمن. قال أحمد بن يحيى ثعلب معناه: المصدق للمؤمنين في أنهم آمنوا. قال النحاس: أو في شهادتهم على الناس في القيامة. وقال ناس من المتأولين معناه: المصدق نفسه في أقواله الأزلية: لا إله غيره و{المهيمن} معناه: الأمين والحفيظ. قاله ابن عباس وقال مؤرج: {المهيمن}: الشاهد بلغة قريش، وهذا بناء لم يجئ منه في الصفات إلا مهيمن ومسيطر ومبيقر ومبيطر، جاء منه في الأسماء مجيمر: وهو اسم واد ومديبر. و: {العزيز} الذي لا يغلب والقاهر الذي لا يقهر يقال عزيز إذا غلب برفع العين في المستقبل. قال الله تعالى: {وعزني في الخطاب} [ص: 23] أي غلبني، وفي المثل من عز بزّ أي من غلب سلب، و{الجبار} هو الذي لا يدانيه شيء ولا يلحق رتبه، ومنه نخلة جبارة إذا لم تلحق وأنشد الزهراوي: [الطويل]و{المتكبر} معناه الذي له التكبر حقاً، ثم نزه الله تعالى نفسه عن إشراك الكفار به الأصنام التي ليس لها شيء من هذه الصفات، و: {البارئ} بمعنى {الخالق}، برأ الله الخلق أي أوجدهم، و: {المصور} هو الذي يوجد الصور، وقرأ علي بن أبي طالب: {المصوَّرَ} بنصب الواو والراء على إعمال {البارئ} به، وهي حسنة يراد بها الجنس في الصور، وقال قوم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه إنه قرأ: {المصوَّرِ} بفتح الواو وكسر الراء على قولهم الحسن الوجه وقوله تعالى: {له الأسماء الحسنى} أي ذات الحسن في معانيها القائمة بذاته لا إله إلا هو، وهذه الأسماء هي التي حصرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «إن لله تعالى تسعة وتسعين اسماً، مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة»، وقد ذكرها الترمذي وغيره مسندة، واختلف في بعضها ولم يصح فيها شيء إلا إحصاؤها دون تعين، وباقي الآية بين. .سورة الممتحنة: .تفسير الآية رقم (1): {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1)}العدو اسم يقع للجمع والمفرد والمراد به هاهنا كفار قريش، وهذه الآية نزلت بسبب حاطب بن أبي بلتعة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد الخروج إلى مكة عام الحديبية فورى عن ذلك بخيبر، فشاع في الناس أنه خارج إلى خيبر، وأخبر هو جماعة من كبار أصحابه بقصده، منهم حاطب بن أبي بلتعة فكتب حاطب إلى قوم من كفار مكة يخبرهم بقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم فجاء الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث علياً والزبير وثالثاً هو المقداد، وقيل أبو مرثد، وقال انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب من حاطب إلى المشركين، فانطلقوا حتى وجدوا المرأة واسمها سارة مولاة لقوم من قريش، وقيل بل كانت امرأة من مزينة ولم تكن سارة، فقالوا لها: أخرجي الكتاب. قالت: ما معي كتاب، ففتشوا جميع رحلها فما وجدوا شيئاً، فقال بعضهم: ما معها كتاب، فقال علي: ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تكذبي والله لتخرجن الكتاب أو لنجردنك. قالت: أعرضوا عني فحلته من قرون رأسها، وقيل: أخرجته من حجزتها، فجاؤوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لحاطب: من كتب هذا؟ فقال: أنا يا رسول الله ولكن لا تعجل علي فوالله ما فعلت ذلك ارتداداً عن ديني ولا رغبة عنه ولكني كنت أمرأً ملصقاً في قريش ولم أكن من أنفسها فأحببت أن تكون لي عندهم يد يرعونني بها في قرابتي. فقال عمر بن الخطاب: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق حاطب إنه من أهل بدر وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أهل بدر. فقال: «اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، ولا تقولوا لحاطب إلا خير»، فنزلت الآية بهذا السبب، وروي أن حاطباً كتب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوكم في مثل الليل، والسيل، وأقسم بالله لو غزاكم وحده لنصر عليكم فكيف وهو في جمع كثير، و{تلقون} في موضع الصفة ل {أولياء}، وألقيت يتعدى بحرف الجر، وبغير حرف جر، فدخول الباء وزوالها سواء، وهذا نظير قوله عز وجل: {وألقيت عليك محبة مني} [طه: 39] وقوله تعالى: {سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب} [آل عمران: 151] وروى ابن المعلى عن عاصم أنه قرأ: {وقد كفروا لما} بلام... وقوله تعالى: {يخرجون} في موضع الحال من الضمير في {كفروا} والمعنى: يخرجون الرسول ويخرجونكم، وهي حال موصوفة، فلذلك ساق الفعل مستقبلاً والإخراج قد مر، وتضييق الكفار على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إخراج إذ كان مؤدياً إلى الخروج، وقوله تعالى: {إن تؤمنوا} مفعول من أجله أي اخرجوا لأجل أن آمنتم بربكم، وقوله تعالى: {إن كنتم} شرط جوابه متقدم في معنى ما قبله، وجاز ذلك لما لم يظهر عمل الشرط، والتقدير: إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي، فلا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء و{جهاداً} نصب على المصدر وكذلك {ابتغاء}، ويجوز أن يكون ذلك مفعولاً من أجله، والمرضاة مصدر كالرضى، و{تسرون} بدل من {تلقون}، ويجوز أن تكون في موضع خبر ابتداء، كأنه قال أنتم {تسرون}، ويصح أن تكون فعلاً مرسلاً ابتدئ به القول والإلقاء بالمودة معنى ما، والإسرار بها معنى زائد على الإلقاء، فيترجح بهذا أن {تسرون} فعل ابتدئ به القول أي تفعلون ذلك وأنا أعلم، وقوله تعالى: {أعلم} يحتمل أن يكون أفعل، ويحتمل أن يكون فعلاً، لأنك تقول عملت بكذا فتدخل الباء وقوله تعالى: {وأنا أعلم} الآية، جملة في موضع الحال، وقرأ أهل المدينة {وأنا} بإشباع الألف في الإدراج، وقرأ غيرهم {وأنا} بطرح الألف في الإدراج، والضمير في {يفعله} عائد على الاتخاذ المذكور، ويجوز أن تكون {سواء} مفعولاً ب {ضل} وذلك على بعد، وذلك على تعدي {ضل}، ويجوز أن يكون ظرفاً على غير التعدي لأنه يجيء بالوجهين والأول أحسن في المعنى، والسواء الوسط وذلك لأنه تتساوى نسبته إلى أطراف الشيء والسبيل هنا شرع الله وطريق دينه..تفسير الآيات (2- 4): {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4)}أخبر الله تعالى أن مداراة هؤلاء الكفار غير نافعة في الدنيا وأنها ضارة في الآخرة ليبين فساد رأي مصانعهم فقال تعالى: {إن يثقفوكم} أي إن يتمكنوا منكم وتحصلوا في ثقافهم، ظهرت العداوة وانبسطت أيديهم بضرركم وقتلكم وألسنتهم بسبكم، وهذا هو السوء، وأشد من هذا كله أنهم إنما يقنعهم منكم أن تكفروا وهذا هو ودهم، ثم أخبر تعالى أن هذه الأرحام التي رغبتم في وصلها ليست بنافعة يوم القيامة فالعامل في {يوم} قوله: {تنفعكم}، وقال بعض النحاة في كتاب الزهراوي، العامل فيه {يفصل} وهو مما بعده لا مما قبله، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والعامة: {يُفْصَل} بضم الياء وسكون الفاء وتخفيف الصاد مفتوحة، وقرأ ابن عامر والأعرج وعيسى: {يُفَصَّل} بضم الياء وفتح الفاء وشد الصاد منصوبة، واختلف على هاتين القراءتين في إعراب قوله: {بينكم} فقيل: نصب على الظرفية، وقيل رفع على ما لم يسم فاعله إلا أن لفظه بقي منصوباً لأنه كذلك كثر استعماله، وقرأ عاصم والحسن والأعمش: {يَفْصِل} بفتح الياء وسكون الفاء وكسر الصاد خفيفة، وقرأ حمزة والكسائي وابن وثاب: {يُفَصِّل} بضم الياء وفتح الفاء وشد الصاد المكسورة، وإسناد الفعل في هاتين القراءتين إلى الله تعالى، وقرأ النخعي وطلحة بن مصرف: {نفَصِّلُ} بنون العظمة مرفوعة وفتح الفاء وشد الصاد المكسورة، وقرأ بعض الناس: {نَفْصل} بنون العظمة مفتوحة وسكون الفاء، وقرأ أبو حيوة، بضم الياء وسكون الفاء وكسر الصاد خفيفة من: أفصل وفي قوله تعالى: {والله بما تعملون بصير} وعيد وتحذير، وقرأ جمهور السبعة: {إسوة} بكسر الهمزة، وقرأ عاصم وحده: {أسوة} بضمها وهما لغتان، والمعنى: قدوة وإمام ومثال، و{إبراهيم} هو خليل الرحمن، واختلف الناس في {الذين معه}، فقال قوم من المتأولين أراد من آمن به من الناس، وقال الطبري وغيره: أراد الأنبياء الذين كانوا في عصره وقريباً من عصره، وهذا القول أرجح لأنه لم يُروَ أن إبراهيم كان له أتباع مؤمنون في مكافحته نمروداً، وفي البخاري أنه قال لسارة حين رحل بها إلى الشام مهاجراً من بلد النمرود: ما على الأرض من يعبد الله غيري وغيرك، وهذه الأسوى مقيدة في التبري عن الإشراك وهو مطرد في كل ملة، وفي نبينا عليه السلام أسوة حسنة على الإطلاق لأنها في العقائد وفي أحكام الشرع كلها، وقرأ جمهور الناس {برءاء} على وزن فعلاء الهمزة الأولى لام الفعل، وقرأ عيسى الثقفي: {بِراء}، على وزن فِعال، بكسر الباء ككريم وكرام، وقرأ يزيد بن القعقاع: {بُراء} على وزن فُعال، بضم الفاء كنوام، وقد رويت عن عيسى قراءة، قال أبو حاتم: زعموا أنه عيسى الهمداني ويجوز: {بَراء} على المصدر بفتح الباء يوصف به الجمع والإفراد، وقوله: {كفرنا بكم} أي كذبناكم في أقوالكم ولم نؤمن بشيء منها، ونظير هذا قوله عليه السلام حكاية عن قول الله عز وجل: فهو مؤمن بي كافر بالكوكب ولم تلحق العلامة في: {بدا} لأن تأنيث {العداوة والبغضاء} غير حقيقي، ثم استثنى تعالى استغفار إبراهيم لأبيه، وذكر أنه كان عن موعدة وقد تفسر ذلك في موضعه، وهذا استثناء ليس من الأول، والمعنى عند مجاهد وقتادة وعطاء الخراساني وغيرهم: أن الأسوة لكم في هذا الوجه، لا في هذا الآخر لأنه كان في علة ليست في نازلتكم، ويحتمل أن يكون استثناء من التبري والقطيعة التي ذكرت أي لم تبق صلة إلا كذا، وقوله تعالى: {ربنا عليك توكلنا} الآية، حكاية عن قول إبراهيم والذين معه إنه هكذا كان..تفسير الآيات (5- 7): {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7)}قوله تعالى: {ربنا لا تجعلنا} الآية، حكاية عن إبراهيم ومن معه والمعنى: لا تغلبهم علينا، فتكون لهم فتنة وسبب ضلالة، لأنهم يتمسكون بكفرهم ويقولون إنما غلبناهم لأنا على الحق وهم على الباطل، نحا هذا المنحى قتادة وأبو مجلز، وقال ابن عباس المعنى: لا تسلطهم علينا فيفتنوننا عن أدياننا فكأنه قال: لا تجعلنا مفتونين فعبر عن ذلك بالمصدر وهذا أرجح الأقوال لأنهم إنما دعوا لأنفسهم، وعلى منحى قتادة إنما دعوا للكفار. أما أن مقصدهم إنما هو أن يندفع عنهم ظهور الكفار الذي يسببه فتن الكفار فجاء في المعنى تحليق بليغ، ونحوه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «بئس الميت سعد- ليهود- لأنهم يقولون لو كان محمد نبياً لم يمت صاحبه»، وقوله تعالى: {لقد كان لكم} الآية خطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم وقوله: {لمن} بدل من قوله: {لكم} وكرر حرف الجر ليتحقق البدل وذلك عرف هذه المبدلات، ومنه قوله تعالى {للفقراء المهاجرين} [الحشر: 8] وهو في القرآن كثير وأكثر ما يلزم من الحروف في اللام، ثم أعلم تعالى باستغنائه عن العباد وأنه {الحميد} في ذاته وأفعاله لا ينقص ذلك كفر كافر ولا نفاق منافق. وروي أن هذه الآيات لما نزلت وأزمع المؤمنون امتثال أمرها وصرم حبال الكفرة وإظهار عداوتهم لحقهم تأسف على قراباتهم وهم من أن لم يؤمنوا ولم يهتدوا حتى يكون بينهم الود والتواصل فنزلت: {عسى الله} الآية مؤنسة في ذلك ومرجية أن يقع موقع ذلك بإسلامهم في الفتح وصار الجميع إخواناً، ومن ذكر أن هذه المودة تزويج النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان، وأنها كانت بعد الفتح، فقد أخطأ لأن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وقت هجرة الحبشة، وهذه الآيات نزلت سنة ست من الهجرة، ولا يصح ذلك عن ابن عباس إلا أن يسوقه مثالاً وإن كان متقدماً لهذه الآية، لأنه استمر بعد الفتح كسائر ما نشأ من المودات، و{عسى} من الله واجبة الوقوع إن شاء الله تعالى..تفسير الآيات (8- 9): {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)}اختلف الناس في هؤلاء الذين لم ينه عنهم أن يبروا من هم. فقال مجاهد: هم المؤمنون من أهل مكة الذين آمنوا ولم يهاجروا وكانوا لذلك في رتبة سوء لتركهم فرض الهجرة وقال آخرون: أراد المؤمنين التاركين للهجرة كانوا من أهل مكة ومن غيرها. وقال الحسن وأبو صالح: أراد خزاعة وبني الحارث بن كعب، وقبائل منا لعرب كفار إلا أنهم كانوا مظاهرين للنبي صلى الله عليه وسلم محبين فيه وفي ظهوره، ومنهم كنانة وبنو الحارث بن عبد مناة ومزينة، وقال قوم: أراد من كفار قريش من لم يقاتل: ولا أخرج ولا أظهر سوءاً، وعلى هذين القولين فالآية منسوخة بالقتال، وقال عبد الله بن الزبير: أراد النساء والصبيان من الكفرة، وقال إن الآية نزلت بسبب أم أسماء حين استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في برها وصلتها فأذن لها، وكانت المرأة خالتها فيما روي فسمتها في حديثها أماً، وقال أبو جعفر بن النحاس والثعلبي: أراد المستضعفين من المؤمنين الذين لم يستطيعوا الهجرة، وهذا قول ضعيف. وقال مرة الهمداني وعطية العوفي: نزلت في قوم من بني هاشم، منهم العباس، قال وقتادة نسختها {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} [التوبة: 5]. وقوله تعالى: {أن تبروهم} بدل، وهذا هو بدل الاشتمال، والإقساط: العدل، و{ظاهروا} معناه: عاونوا، و{الذين قاتلوا في الدين وأخرجوا} هم مردة قريش وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات} الآية نزلت إثر صلح الحديبية، وذلك أن الصلح تضمن أن يرد المؤمنون إلى الكفار كل من جاء مسلماً من رجل وامرأة فنقض الله تعالى من ذلك أمر النساء بهذه الآية، وحكم أن المهاجرة لا ترد إلى الكفار بل تبقى تستبرئ وتتزوج ويعطى زوجها الكافر الصداق الذي أنفق، وأمر أيضاً المؤمنين بطلب صداق من فرت امرأته من المؤمنين، وحكم تعالى بهذا في النازلة وسماهم مؤمنات قبل أن يتيقن ذلك إذ هو ظاهر أمرهن، و{مهاجرات} نصب على الحال، {فامتحنوهن} معناه: جربوهن واستخبروا حقيقة ما عندهن. واختلف الناس في هذا الامتحان كيف هو، فقال ابن عباس وقتادة ومجاهد وعكرمة: كان بأن تستحلف المرأة أنها ما هاجرت لبغض زوجها ولا لجريرة جرت ولا لسبب من أعراض الدنيا سوى حب الله ورسوله والدار الآخرة. قال ابن عباس: الامتحان أن تطلب بأن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإذا فعلت ذلك لم ترد، فقال فريق منهم عائشة أم المؤمنين: الامتحان هو أن تعرض عليها الشروط التي في الآية بعد هذا من ترك الزنا والسرقة والبهتان والعصيان، فإذا أقرت بذلك فهو امتحان، وقيل: إن هذه الآية نزلت في أميمة بنت بشر امرأة حسان بن الدحداحة وفي كتاب الثعلبي أنها نزلت في سبيعة بنت الحارث، وقوله تعالى: {الله أعلم بإيمانهم} إشارة إلى الاسترابة ببعضهن وحض على امتحانهن، وذكر تعالى العلة في أن لا يرد النساء إلى الكفار وهي امتناع الوطء وحرمته، وقرأ طلحة: {لا هن يحللن لهم}.
|